إذا كانت السير أكثر فروع الأدب طرافةً ومتعةً فإن أكثر ما في السير من طرافةٍ ومتعةٍ الرسائل الشخصية. ذلك أن رسائل الشخص هي روحه سافرة، ومرآة قلبه الصادقة، ينعكس عليها ما يدور بخلده وما يخفيه في قرارة نفسه، فيظهر فيها واضحًا على حقيقته غير مشوه ولا معكوس، يظهر فيها حتى في أثناء تكونه قبل أن يستكمل عناصره ويتخذ شكله النهائي.
فالرسالة تسجل الحياة العقلية لكاتبها، وتعين على تحليل غرائزه وعواطفه، والأسس الحقيقية التي تقوم عليها أعماله. والرسالة تنم عن أخلاق كاتبها، وعن الأسباب الخفية لسلوكه وأعماله عَرَفَ ذلك أو لم يعرف، وتظهر الأمور الصغيرة التافهة الكامنة وراء الحقائق العظيمة، وتذكرنا بأن التاريخ كان في يومٍ من الأيام حياة حقة، وأن أشخاصه كانوا رجالًا ونساءً أحياء. وإن كنزًا من هذه الرسائل لهو في الحق كنز من المواطن الصادقة الحية، ظهرت للعالم صريحةً غير مكبوتة. وما أصدق ما قيل في وصف الرسائل: "إن الرسائل أرواحًا، وإنها لتتكلم، وإن فيها من القوة ما يعبر عن نشوة القلب، وليس ينقصها شيءٌ من حرارة العواطف، وإنها لتبعثها في القلب كما يبعثها الكاتب نفسه، وفيها كل ما للكلام من رقةٍ وحنو، وقد يكون فيها أحيانًا من الجرأة على التعبير ما لا يستطيعه الكلام